فصل: قال النسفي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال النسفي:

سورة الكافرون ست آيات مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{قُلْ يا أيّها الكافرون}
المخاطبون كفرة مخصوصون قد علم الله أنهم لا يؤمنون.
روي أن رهطًا من قريش قالوا: يا محمد هلم فاتبع ديننا ونتبع دينك تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، فقال: معاذ الله أن أشرك بالله غيره، قالوا: فاستلم بعض آلهتنا نصدقك ونعبد إلهك فنزلت، فغدا إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش فقرأها عليهم فآيسوا {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} أي لست في حالي هذه عابدًا ما تعبدون {وَلاَ أَنتُمْ عابدون} الساعة {مَا أَعْبُدُ} يعني الله {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} ولا أعبد فيما أستقبل من الزمان ما عبدتم {وَلا أَنتُمْ} فيما تستقبلون {عابدون مَا أَعْبُدُ} وذكر بلفظ ما لأن المراد به الصفة أي لا أعبد الباطل ولا تعبدون الحق، أو ذكر بلفظ (ما) ليتقابل اللفظان ولم يصح في الأول (من) وصح في الثاني (ما) بمعنى (الذي) {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ} لكم شرككم ولي توحيدي، وبفتح الياء: نافع وحفص، وروي أن ابن مسعود رضي الله عنه دخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم جالس فقال له: «نابذ يا ابن مسعود فقرأ {قُلْ يا أيّها الكافرون} ثم قال له في الركعة الثانية: أخلص.
فقرأ {قُلْ هُوَ الله أحد} فلما سلم، قال يا ابن مسعود سل تجب»
والله أعلم. اهـ.

.قال ابن جزي:

سورة الكافرون:
سبب هذه السورة:
(أن قومًا من قريش منهم الوليد بن المغيرة وأمية بن خلف والعاصي بن وائل وأبو جهل ونظراؤهم قالوا: يا محمد اتبع ديننا ونتبع دينك، أعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة. فقال: معاذ الله أن نشرك بالله شيئًا، ونزلت السورة) في معنى البراءة من آلهتهم ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قرأها برئ من الشرك {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} هذا إخبار أنه لا يعبد أصنامهم.
فإن قيل: لم كرر هذا المعنى بقوله: {وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ}؟ فالجواب من وجهين أحدهما قاله الزمخشري وهو أن قوله: {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} يريد في الزمان المستقبل وقوله: {وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} يريد به فيما مضى، أي ما كنت قط عابدًا ما عبدتم فيما سلف، فكيف تطلبون ذلك مني الآن. الثاني قاله ابن عطية: وهو أن قوله: لا أعبد ما تعبدون لما كان يحتمل أن يراد به زمان الحال خاصة قال: {وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} أي: أبدًا ما عشت. لأن لا النافية إذا دخلت على الفعل المضارع خلصته للاستقبال فقوله: لا أعبد لا يحتمل أن يراد به الحال. ويحتمل عندي أن يكون قوله: {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} يراد به في المستقبل. على حسب ما تقتضيه لا من الاستقبال، ويكون قوله: {وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} يريد به في الحال، فيحصل من المجموع نفي عبادته الأصنام في الحال والاستقبال. ومعنى الحال في قوله: {وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} ثم أظهر من معنى المضي الذي قاله الزمخشري، ومن معنى الاستقبال فإن قولك: ما زيد بقائم ينفي الجملة الاسمية يقتضي الحال.
{وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} هذا إخبار أن هؤلاء الكفار لا يعبدون الله، كما قيل لنوح: {أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ} [هود: 36] إلا أن هذا في حق قوم مخصوصين ماتوا على الكفر، وقد روي أن هؤلاء الجماعة المذكورين هم أبو جهل والوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل والأسود بن المطلب وأمية بن خلف وأبيّ بن خلف وابن الحجاج وكلهم ماتوا كفارًا.
فإن قيل: لم قال ما أعبد بما دون من التي هي موضوعة لمن يعقل؟ فالجواب من ثلاثة أوجه: أحدهما أن ذلك لمناسبة قوله: {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} فإن هذا واقع على الأصنام التي لا تعقل ثم جعل ما أعبد على طريقته لتناسب اللفظ. الثاني أنه أراد الصفة كأنه قال: لا أعبد الباطل ولا تعبدون الحق، قال الزمخشري. الثالث أن ما مصدرية والتقدير: لا أعبد عبادتكم ولا تعبدون عبادتي وهذا ضعيف، فإن قيل لم كرّر هذا المعنى واللفظ فقال بعد ذلك: {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} مرة أخرى؟ فالجواب من وجهين:
أحدهما: قول الزمخشري: وهو أن الأوّل في المستقبل والثاني فيما مضى والآخر قاله ابن عطية وهو أن الأول في الحال والثاني في الاستقبال فهو حتم عليهم أن لا يؤمنوا أبدًا {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} أي لكم شرككم ولي توحيدي وهذه براءة منهم، وفيها مسالمة منسوخة بالسيف. اهـ.

.قال البيضاوي:

سورة الكافرون مكية، وآيها ست آيات.
بسم الله الرحمن الرحيم
{قُلْ يَا أَيُّهَا الكافرون} يعني كفرة مخصوصين قد علم الله منهم أنهم لا يؤمنون. روي أن رهطًا من قريش قالوا يا محمد تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة فنزلت.
{لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} أي فيما يستقبل فأن لا تدخل إلا على مضارع بمعنى الاستقبال كما أن {مَا} لا تدخل إلا على مضارع بمعنى الحال.
{وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ} أي فيما يستقبل لأنه في قرآن {لاَ أَعْبُدُ}.
{وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} أي في الحال أو فيما سلف.
{وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ} أي وما عبدتم في وقت ما أنا عابده، ويجوز أن يكونا تأكيدين على طريقة أبلغ وأما لم يقل ما عبدت ليطابق {مَّا عَبَدتُّمْ} لأنهم كانوا موسومين قبل المبعث بعبادة الأصنام، وهو لم يكن حينئذ موسومًا بعبادة الله، وإنما قال: {مَا} دون من لأن المراد الصفة كأنه قال: لا أعبد الباطل ولا تعبدون الحق أو للمطابقة. وقيل إنها مصدرية وقيل الأوليان بمعنى الذي والآخريان مصدريتان.
{لَكُمْ دِينَكُمْ} الذي أنتم عليه لا تتركونه.
{وَلِىَ دِينِ} ديني الذي أنا عليه لا أرفضه، فليس فيه إذن في الكفر ولا منع عن الجهاد ليكون منسوخًا بآية القتال، اللهم إلا إذا فسر بالمتاركة وتقرير كل من الفريقين الآخر على دينه، وقد فسر ال {دِينِ} بالحساب والجزاء والدعاء والعبادة.
عَن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الكافرون فكأنما قرأ ربع القرآن وتباعدت عنه مردة الشياطين وبرئ من الشرك». اهـ.

.قال أبو حيان:

سورة الكافرون:
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)}
وفي قوله: {قل} دليل على أنه مأمور بذلك من عند الله، وخطابه لهم بيا أيها الكافرون في ناديهم، ومكان بسطة أيديهم مع ما في الوصف من الأرذال بهم دليل على أنه محروس من عند الله تعالى لا يبالي بهم.
والكافرون ناس مخصوصون، وهم الذين قالوا له تلك المقالة: الوليد بن المغيرة، والعاصي بن وائل، والأسود بن المطلب، وأمية وأبيّ ابنا خلف، وأبو جهل، وابنا الحجاج ونظراؤهم ممن لم يسلم، ووافى على الكفر تصديقًا للإخبار في قوله: {ولا أنتم عابدون ما أعبد}.
وللمفسرين في هذه الجمل أقوال:
أحدها: أنها للتوكيد.
فقوله: {ولا أنا عابد ما عبدتم} توكيدًا لقوله: {لا أعبد ما تعبدون}، وقوله: {ولا أنتم عابدون ما أعبد} ثانيًا تأكيد لقوله: {ولا أنتم عابدون ما أعبد} أولًا.
والتوكيد في لسان العرب كثير جدًا، وحكوا من ذلك نظمًا ونثرًا ما لا يكاد يحصر.
وفائدة هذا التوكيد قطع أطماع الكفار، وتحقيق الأخبار بموافاتهم على الكفر، وأنهم لا يسلمون أبدًا.
والثاني: أنه ليس للتوكيد، واختلفوا.
فقال الأخفش: المعنى لا أعبد الساعة ما تعبدون، ولا أنتم عابدون السنة ما أعبد، ولا أنا عابد في المستقبل ما عبدتم، ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد، فزال التوكيد، إذ قد تقيدت كل جملة بزمان مغاير.
وقال أبو مسلم: ما في الأوليين بمعنى الذي، والمقصود المعبود.
وما في الأخريين مصدرية، أي لا أعبد عبادتكم المبنية على الشك وترك النظر، ولا أنتم تعبدون مثل عبادتي المبنية على اليقين.
وقال ابن عطية: لما كان قوله: {لا أعبد} محتملًا أن يراد به الآن، ويبقى المستأنف منتظرًا ما يكون فيه، جاء البيان بقوله: {ولا أنا عابد ما عبدتم} أبدًا وما حييت.
ثم جاء قوله: {ولا أنتم عابدون ما أعبد} الثاني حتمًا عليهم أنهم لا يؤمنون به أبدًا، كالذي كشف الغيب.
فهذا كما قيل لنوح عليه السلام: {أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} أما أن هذا في معينين، وقوم نوح عموا بذلك، فهذا معنى الترديد الذي في السورة، وهو بارع الفصاحة، وليس بتكرار فقط، بل فيه ما ذكرته، انتهى.
وقال الزمخشري: {لا أعبد}، أريدت به العبادة فيما يستقبل، لأن لا لا تدخل إلا على مضارع في معنى الاستقبال، كما أن ما لا تدخل إلا على مضارع في معنى الحال، والمعنى: لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم، ولا أنتم فاعلون فيه ما أطلب منكم من عبادة إلهي.
{ولا أنا عابد ما عبدتم}: أي وما كنت قط عابدًا فيما سلف ما عبدتم فيه، يعني: لم تعهد مني عبادة صنم في الجاهلية، فكيف ترجى مني في الإسلام؟ {ولا أنتم عابدون ما أعبد}: أي وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته.
فإن قلت: فهلا قيل ما عبدت كما قيل ما عبدتم؟
قلت: لأنهم كانوا يعبدون الأصنام قبل البعث، وهو لم يكن يعبد الله تعالى في ذلك الوقت، انتهى.
أما حصره في قوله: لأن لا لا تدخل، وفي قوله: ما لا تدخل، فليس بصيح، بل ذلك غالب فيهما لا متحتم.
وقد ذكر النحاة دخول لا على المضارع يراد به الحال، ودخول ما على المضارع يراد به الاستقبال، وذلك مذكور في المبسوطات من كتب النحو؛ ولذلك لم يورد سيبويه ذلك بأداة الحصر، إنما قال: وتكون لا نفيًا لقوله يفعل ولم يقع الفعل.
وقال: وأما ما فهي نفي لقوله هو يفعل إذا كان في حال الفعل، فذكر الغالب فيهما.
وأما قوله: في قوله: {ولا أنا عابد ما عبدتم}: أي وما كنت قط عابدًا فيما سلف ما عبدتم فيه، فلا يستقيم، لأن عابدًا اسم فاعل قد عمل فيما عبدتم، فلا يفسر بالماضي، إنما يفسر بالحال أو الاستقبال؛ وليس مذهبه في اسم الفاعل مذهب الكسائي وهشام من جواز إعماله ماضيًا.
وأما قوله: {ولا أنتم عابدون ما أعبد}: أي وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته، فعابدون قد أعمله فيما أعبد، فلا يفسر بالماضي.
وأما قوله، وهو لم يكن إلى آخره، فسوء أدب منه على منصب النبوة، وهو أيضًا غير صحيح، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يزل موحدًا لله عز وجل منزهًا له عن كل ما لا يليق بجلاله، مجتنبًا لأصنامهم بحج بيت الله، ويقف بمشاعر إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
وهذه عبادة لله تعالى، وأي عبادة أعظم من توحيد الله تعالى ونبذ أصنامهم! والمعرفة بالله تعالى من أعظم العبادات، قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} قال المفسرون: معناه ليعرفون. فسمى الله تعالى المعرفة به عباده.
والذي أختاره في هذه الجمل أنه أولًا: نفى عبادته في المستقبل، لأن لا الغالب أنها تنفي المستقبل.
قيل: ثم عطف عليه {ولا أنتم عابدون ما أعبد} نفيًا للمستقبل على سبيل المقابلة؛ ثم قال: {ولا أنا عابد ما عبدتم} نفيًا للحال، لأن اسم الفاعل العامل الحقيقة فيه دلالته على الحال؛ ثم عطف عليه {ولا أنتم عابدون ما أعبد} نفيًا للحال على سبيل المقابلة، فانتظم المعنى أنه صلى الله عليه وسلم لا يعبد ما يعبدون، لا حالًا ولا مستقبلًا، وهم كذلك، إذ قد حتم الله موافاتهم على الكفر.
ولما قال: {لا أعبد ما تعبدون}، فأطلق ما على الأصنام، قابل الكلام بما في قوله: {ما أعبد}، وإن كانت يراد بها الله تعالى، لأن المقابلة يسوغ فيها ما لا يسوغ مع الانفراد، وهذا على مذهب من يقول: إن ما لا تقع على آحاد من يعلم.
أما من جوّز ذلك، وهو منسوب إلى سيبويه، فلا يحتاج إلى استعذار بالتقابل.
وقيل: ما مصدرية في قوله: {ما أعبد}.
وقيل: فيها جميعها.
وقال الزمخشري: المراد الصفة، كأنه قيل: لا أعبد الباطل، ولا تعبدون الحق.
{لكم دينكم ولي دين}: أي لكم شرككم ولي توحيدي، وهذا غاية في التبرؤ.
ولما كان الأهم انتفاءه عليه الصلاة والسلام من دينهم، بدأ بالنفي في الجمل السابقة بالمنسوب إليه.
ولما تحقق النفي رجع إلى خطابهم في قوله: {لكم دينكم} على سبيل المهادنة، وهي منسوخة بآية السيف.
وقرأ سلام: ديني بياء وصلًا ووقفًا، وحذفها القراء السبعة، والله تعالى أعلم. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري:

{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)}
التفسير:
هذد السورة تسمى أيضًا سورة المنابذة وسورة الإخلاص والمقشقشة. وروي «من قرأها فكأنما قرأ ربع القرآن».
فأوّلها العلماء بأن القرآن فيه مأمورات ومنهيات، وكل منهما إمّا أن يتعلق بالقلب والجوراح، وإما أن يتعلق بالجوارح، وهذه السورة تتضمن القسم الثالث أعني النهي المتعلق بالقلب فكانت ربعًا لما يتعلق بالتكاليف من القرآن بل ربعًا للقرآن لأن المقصود الأصلي من المواعظ والقصص وغيرها هو التزام التكاليف كما قال سبحانه: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56] يروى أن الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن عبد المطلب وأمية بن خلف قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم تعال حتى نعبد إلهك مدّة وتعبد إلهنا مدّة فيحصل الصلح بيننا وبينك وتزول العداوة من بيننا، فإن كان أمرك رشيدًا أخذنا منه حظًا، وإن كان أمرنا رشيدًا أخذت منه حظًا فنزلت هذه السورة ونزل قوله: {قل أفغير الله تأمرونّي أعبد أيها الجاهلون} [الزمر: 64] فتارة وصفهم بالجهل وتارة خاطبهم بالكفر، فالجهل كالشجرة والكفر كالثمرة، ولكن الكفر أشنع من الجهل، فقد يكون الجهل غير ضارّ كما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال في علم الأنساب (علم لا ينفع ولا يضر) ولهذا خصت السورة بهذا الخطاب لأنها بأسرها فيهم. وروي عن علي عليه السلام أن (يا) نداء النفس و(أي) نداء القلب و(ها) نداء الروح. وبوجه آخر (يا) للغائب و(أي) للحاضر و(ها) للتنبيه. كان الله تعالى يقول أدعوك ثلاثًا ولا تجيبني مرة ما هذا إلا لجلهك بحقي. ثم الخطاب مع جميع الكفار أو مع بعضهم، وعلى الأول يدخله التخصيص لا محالة لأن فيهم من يعبد الله كأهل الكتاب فلا يجوز أن يقول لهم {لا أعبد ما تعبدون} وفيهم من آمن بعد ذلك فلا يجوز أن يخبر عنهم بقوله: {ولا أنتم عابدون ما أعبد} وعلى الثاني يكون خطابًا لبعض الكفرة المعهودين الحاضرين وهو الذين قالوا نعبد إلهك سنة وتعبد إلهنا سنة، ولا يلزم التخصيص فيكون أولى. أما ظاهر التكرار الذي وقع في هذه السورة ففيه قولان:
أحدهما:أنه للتأكيد وأي موضع أحوج إلى التأكيد من هذا المقام فإنهم رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيما طلبوا منه مرارًا، وسكت الرسول صلى الله عليه وسلم عن الجواب فوقع في قلوبهم أنه قد مال إلى دينهم بعض الميل.
وروي أنهم ذكروا قولهم تعبد إلهنا مدة ونعبد إلهك مدة مرتين، فأجيبوا مكررًا على وفق قولهم وهو نوع من التهكم فإن من كرر الكلمة الواحدة لغرض فاسد قد يجاب عنه بنفيه مكررًا للاستخفاف وحسم مادة الطمع. القول.
الثاني: إن الأول للمستقبل وعلامته لا التي هي للاستقبال بدليل أن (لن) نفي للاستقبال على سبيل التوكيد أو التأبيد. وزعم الخليل أن أصله (لا أن) والثاني للحال والمعنى لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم ولا أنتم فاعلون في المستقبل ما أطلب منكم من عبادة إلهي. ثم قال: {ولا أنا عابد} في الحال {ما عبدتم ولا أنتم} في الحال بعابدين لمعبودي. وعلى هذا القول زعم بعضهم أن الأمر بالعكس إذا الترتيب أن ينفى الحال أوّلًا ثم الاستقبال، وللأولين أن يجيبوا بأنهم إنما دعوه إلى عبادة غير الله في الاستقبال فكان الابتداء به أهم. وفائدة الإخبار عن الحال وكان معلومًا أنه ما كان يعبد الصنم والكفار كانوا يعبدون الله في بعض الأحوال هي أن لا يتوهم أحد أنه يعبد غير الله سرًا خوفًا أو طمعًا، وعبادة الكفار لم تكن معتدًّا بها لأجل الشرك. ولأبي مسلم قول ثالث هو أن ما في الأولين بمعنى الذي، وأما في الآخرين فمصدرية أي ولا أنا عابد عبادتكم المبنية على الإشراك، ولا أنتم عابدون عبادتي المبنية على اليقين. ووجه رابع وهو أن يحمل الأول على نفي الالتماس الصادر عنهم، والآخر على النفي المطلق العام المتناول لجميع الجهات كمن يدعو غيره إلى الظلم لغرض التنعم فيقول: لا أظلم لغرض التنعم بل لا أظلم رأسًا لا لهذا الغرض ولا لسائر الأغراض. قوله: {ما تعبدون} ليس فيه إشكال إنما الإشكال في قوله: {ما أعبد} فأجيب بعد تسليم أن (ما) ليست أعم بأن المراد به الصفة كأنه قيل: لا أعبد الباطل ولكن أعبد الحق أو هي (ما) المصدرية على نحوم ما مر، أو هي للطباق كقوله: {وجزاء سيئة سيئة} [الشورى: 40].
فإن قيل: لما كان المقام مقام التأكيد والمبالغة ولهذا كرر ما كرر فلم لم يقل (لن أعبد) كما قال أصحاب الكهف {لن ندعو من دونه إلهًا} [الكهف: 14] قلت: إن أصحاب الكهف كانوا متهمين بعبادة الأصنام لأنه قد وجد منهم ذلك قبل أن أرشدهم الله، وإن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يكن متهمًا بذلك قط يحتج إلى المبالغة بـ: (لن) ثم أوّل السورة لما اشتمل على التشديد البليغ وهو النداء بالكفر والتكرير فاشتمل آخرها على اللطف من بعض الوجوه كأنه قال: قد بالغت في منعكم من هذا الأمر القبيح فإن لم تقبلوا قولي فاتركوني سواء بسواء.
قال ابن عباس: لكم كفركم بالله ولي التوحيد والإخلاص. ومن هنا ذهب بعضهم إلى أن السورة منسوخة بآية القتال. والمحققون على أنه لا نسخ بل المراد التهديد كقوله: {اعملوا ما شئتم}
[فصلت: 40] وقيل: الدين الجزاء.
وقيل: المضاف محذوف أي لكم جزاء دينكم ولي جزاء ديني.
وقيل: الدين العبادة. اهـ.